الأدب الإسلامي

 

 

عمر بن الخطاب  رضي الله عنه

(5/10)

 

بقلم : أديب العربية الكبير معالي  الدكتور عبد العزيز عبد اللّه الخويطر

الرياض ، المملكة العربية السعودية

 

 

 

     إن عمر لا يكتفي بالسماح لهم بما أباحه الله لهم، وما اختاروه، ولكنه أردفه بعصارة من تجربته، ليتم لهم النفع، ويتقوا الضرر، وحوادث الزمان، وما يأتي على المباني من خلل، لابد أن مرَّ به بعض مآسيها.

     وعندما يلحظ ثروة ظهرت فجأة على عامله، دون أن يكون له معترك في الحياة يأتيه منه الغنى؛ وما يأتيه من عمله لايبرر ظهور هذه النعمة عليه؛ وعمر يلفت نظره الإسراف، وله عليه دلائل، وقد أشار إلى إحدى هذه الدلائل، وهي المباني، وأشار أيضاً إلى الماء، فقال:

     «قال عمر رضي الله عنه :

     لي على كل خائن أمينان: الماء والطين: أي إذا شرع العامل في إنباط العيون، وبناء الدور، علمت أنه جمع المال، واحتجنه»(1).

     وهما دليلان كما يبدو لم يخونا حدس عمر.

     ويبدو أن العامل المثالي في نظر عمر متوافر، وبين عماله من هو كذلك، وقد أرضى عمر، بل إن أمانته، واستطاعته أن يغلب نفسه، أدهشت عمر، ولعل عمر لم يكن يظن أن أمله في عماله يبلغ هذا الحد من الاستقامة والإيمان، والقصة تروى كما يلي:

     «دخل عمير بن سعد على عمر، لما رجع إليه من ولاية حمص، وليس معه إلا جراب، وإداوة، وقصعة، وعصا.

     فقال عمر: ما الذي أرى بك من سوء الحال؟

     فقال: أولست تراني صحيح البدن؛ معي الدنيا بأسرها؟

     قال: وما معك.

     قال: جرابي أحمل فيه زادي، وقصعتي أغسل فيها ثوبي ورأسي، وإداوتي فيها ماء سقيتي، ومعي عصاي، إن لقيت عدوًّا دافعته بها، وما بقي فتبع لما معي.

     قال: صدقت»(2).

     لقد فاجأت حاله عمر، ولقد فاجأه رده، المليء بالثقة بالله. ولاحظ عنصر الخير المسيطر عليه، يدل عليه قوله عن عصاه: «إن لقيت عدوًّا دافعته بها»، إن عصاه للدفاع، وليست للهجوم، فرؤيته لعدوه لاتجعله يسارع إلى عدوه، وفي هذا دقة في التعبير عما تنطوي عليه النفس، وقد ظهر من ذلك أنها نفس خيرة.

     وعمر يستقصي عن عماله قبل أن يستعين بهم، ويبدو أنه لايترك جانبًا في العامل إلا وسأل عنه، حتى الاسم إذا لم يكن فيه فأل حسن، فإنه يستغني عن صاحبه، وهناك مثل لذلك في القصة الآتية، وتدخل في نطاق: «يعجبني الفأل الحسن»:

     «سأل عمر بن الخطاب رضي الله عنه رجلاً أراد أن يستعين به على عمل، عن اسمه، واسم أبيه، فقال:

     ظالم بن سراقة.

     فقال: تظلم أنت، ويسرق أبوك. ولم يستعن به في شيء»(3).

     وطرافة القصة، واعتمادها على الألفاظ، وحسن تركيبها، تستوجب الحذر، فقد تكون منحولة، فإن لم تكن منحولة فعمر معذور في العزوف عن استخدام هذا الرجل، فإن والده سيئ الاختيار، وابنه لا يعذر على إبقائه على هذا الاسم؛ وهو اسم أقرب إلى أسماء الجاهلية الأولى.

     وليست هذه هي القصة الوحيدة في هذا المجال، فهناك قصة تشبهها، ولعلها هي التي ساعدت على الشك في الأولى، فقد عرف قائلها أن عمر له فراسة، ولكن لانظن أنها تدخله في المغيب، الذي لايعلمه إلا الله، والقصة كما يلي:

     «أقبل رجل على عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال له عمر:

     ما اسمك؟

     قال: شهاب بن حرقة.

     قال: ممن؟

     قال: من أهل حرة النار.

     قال: وأين مسكنك؟

     قال: بذات لظى.

     قال: اذهب، فإن أهلك قد احترقوا.

     فكان كما قال عمر رضي الله عنه »(4).

     سبحان الله العظيم، ألم يحترق أهله إلا الآن لما أخبر عمر باسمه، واسم عشيرته، واسم مسكنه؟ إن كل هذه الشهب والنيران كانت ملازمة له من قبل؛ ولكنه الخيال، والجري خلف الطرفة، متى سنحت، واقتناصها، وإهداؤها للقراء!

     وذهن عمر رضي الله عنه مشغول بالرعية، سواء كانوا عنده، أو في المناطق البعيدة عنه، فهو حفي بأخبارهم، مسؤول عن أحوالهم، يضبه ما يزعجهم، ويفرح بما يأتيهم من خير، ويطرب عندما يجدهم على الطريقة المثلي، وهو لماح يعرف خفايا الأمور من بين ثنايا الإجابة، وله قصة تدور حول تقصيه الحقائق عن الثغور وأمثالها:

     «بعث سعد بن أبي وقاص جرير بن عبد الله البجلي إلى عمر بن الخطاب، فقال له عمر:

     كيف تركت الناس؟

     قال: هم كقداح الجعبة، منها الأعضل الطائش، ومنها القائم الرائش؛ وسعد بن أبي وقاص ثقافها، الذي يقيم أودها، ويغمز عضلها.

     قال: وكيف تركت طاعتهم؟

     قال: يصلون الصلاة لأوقاتها، ويؤدون الطاعة إلى ولاتها.

     فقال عمر: الله أكبر! إذا أقيمت الصلاة، أوتيت الزكاة، وإذا كانت الطاعة كانت الجماعة»(5).

     وعمر عندما يسائل من يريده لعمل، فإنه يستقصي، وقد يستمر في الأسئلة حتى يطمئن إلى أنه عثر على بغيته، ولا يقف دائمًا في أول الطريق، مثلما وقف عند اسم «ظالم بن سراقة»، وقد أوغل في السؤال عندما أخذ يختبر قاضياً أراد أن ينصبه حتى وصل إلى الصورة التي أراد أن يصل إليها؛ والقصة كما يلي:

     «قال محارب بن دثار:

     إن عمر قال لرجل: ممن أنت؟

     قال: أنا قاضي دمشق.

     قال: وكيف تقضي؟

     قال أقضي بكتاب الله.

     قال: فإذا جاء ما ليس في كتاب الله؟

     قال: أقضي بسنة رسول الله عليه السلام .

     قال: فإذا جاء ما ليس في سنة رسول الله؟

     قال: أجتهد برأيي، وأوامر جلسائي.

     فقال له عمر: أحسنت.

     وقال له عمر: إذا جلست فقل: اللهم إني أسألك أني أقضي بعلم، وأن أفتي بحلم، وأسألك العدل في الغضب والرضى.

     قال: فسار ما شاء الله أن يسير، ثم رجع إلى عمر.

     قال: ما رجعك؟

     قال: رأيت فيما يرى النائم، أن الشمس والقمر يقتتلان، مع كل واحد منهما جنود من الكواكب.

     قال: مع أيهما كنت؟

     قال: مع القمر.

     قال عمر: نعوذ بالله.

     ﴿وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً﴾ (6).

     ويحوم الشك حول الجزء الأخير من القصة، وهو الخاص بالحلم، ويبدو أنه مزاد على القصة الأصل، ملمزًا إلى النزاع بين علي ومعاوية رضي الله عنهما لأنه لا يبدو أن هناك ما يوجب عودة القاضي من طريقه إلى الشام، ليقص على عمر حلماً رآه، وإذا صح أن هذا حدث، مع أنه في نظرنا لم يحدث، فعمر لم يره كفيًّا للعمل، وسقط من عينه.

     أما أول القصة، ففيه من سياسة عمر، وبعض الأسئلة التي سأله إياها سألها غيره ممن أراده على القضاء، حتى أن هذه الأسئلة، وهذه الإجابة، أصبحت قاعدة يسير عليها الولاة والقضاة.

     وعمر لايتواني في عزل الرجل إذا وجده في غير مكانه، ولا يُخفي ما أخذه عليه، أو كان سبباً في عزله، وموقفه مع زياد بن أبيه، وقد مر بنا، يمثل ذلك، فقد عزله عن كتابة أبي موسى، وعلل ذلك بأنه لايود أن يحمل فضل عقله على الناس!

     وكان يحاول أن يجنب العامل الزلل بأن يبصره عند تعيينه بالسياسة التي يود منه أن يسلكها، حتى تكون كلماته حجة له عليهم، وعن طريقها يقومهم، وبها يحاسبهم؛ ومن السهل عليه أن يدخل عليهم منها، فهي واضحة، ولابد أن توافيه عيونه بما يظهر منها أولاً فأول.

     وهذه الإرشادات المختارة، والنصائح التي لاغنى في نظره عنها، تجعل منه عاملاً مثاليًّا، وقدوة حسنة لمن حوله، وتبعده عن إغواء الشيطان، وإغراء بهرج الحياة؛ ولا يستطيع معها أن يتأول، أو يحتج بالجهل وقد علم، ومن هذه النصائح ما يأتي:

     «كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه إذا بعث عاملاً اشترط عليه أربعاً:

     لا تركب البراذين، ولاتلبس الرقيق، ولا تأكل النقي، ولا تتخذ حاجبًا، ولا تغلق باباً عن حوائج الناس، وما يصلحهم.

     ويقول له: إني لا أستعملك على أبشارهم، ولا أعراضهم، ولا أعمالهم»(7).

     ونظرة عمر إلى من يصلح لحكم الناس، والإمرة عليهم صعبة المقابلة والتطبيق؛ لأن الصفة التي يريدها قليلاً ما تتوافر في الناس، ولعله يرضى ببعضها أحيانًا عندما يعوزه من يتحلى بها؛ وفي ما يطلبه من الصحة والصدق ما لا يلام إذا نشده، وهو الذي يهدف إلى صلاح الرعية وراحتها ورعايتها وهذه هي الصفات التي يتمناها:

     «كان عمر رضي الله عنه يقول:

     لا يصلح أن يلي أمر الناس إلا حصيف العقل، وافر العلم، قليل العزَّة، بعيد الهمة، شديد في غير عنف، لين في غير ضعف، جواد في غير سرف، لا يخاف في الله لومة لائم.

     وقال أيضاً: ينبغي أن يكون في الوالي من الشدة ما يكون ضرب الرقاب عنده في الحق كقتل عصفور، ويكون فيه من الرقة والحنو والرأفة والرحمة ما يجزع من قتل عصفور بغير حق»(8).

     وكان عمر رضي ا لله عنه يعرف عناء الحكم، وما يتعرض له عماله من الجهد، والإغراء أحياناً، وما يرمون به التهم، وما يتعرضون له من مس كرامتهم؛ لأنهم يتعاملون مع أخلاط من البشر، ولهذا كان يرفع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه المناصب ما أمكنه ذلك، وقد لفت ذلك نظر بعض من حوله، فسأله عن أسباب ذلك، والقصة هكذا:

     «قيل لعمر بن الخطاب:

     ما يمنعك أن تفشي العمل في الأفاضل من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم؟

     فقال: هم أجل من أن أدنسهم بالعمل»(9).

     وبقوا حوله، يتقوى بهم، ويأخذ رأيهم، ويرعى حقوقهم، ويأنس باستشارتهم وملاحظاتهم، وفي هذا عمل جليل.

     وقد لاحظ على بعضهم العناء، وهو يتفقدهم في أعمالهم، وهم بعيدون عنه، مثل أبي عبيدة عامر بن الجراح رضي الله عنه ولعمر معه موقف رعاية وعناية، والقصة كما يلي:

     «بعث عمر إلى أبي عبيدة بن الجراح، وهو أمير الشام، مالاً، وقال للرسول:

     انظر ما ينصع؟

     فرآه يوسع على عياله.

     ثم نقص من أرزاقه، فقتر عليهم.

     فقال عمر: رحم الله أبا عبيدة، وسعنا عليه، فوسع، وقترنا عليه، فقتر»(10).

     وعمر يقدر عماله الذين كانوا عند حسن ظنه، ويعرف أنهم يبذلون جهدًا أمام مغريات الأموال التي تجبى، والعادات التي تهجم على مجتمعاتهم، وتعتمل بين القبائل المختلفة المرابطة، والجيوش المجاهدة، وعمر لا يتوانى أن يصرح بتقديره لهم، وإعجابه بهم، وموقف من مواقفه هذه يتبين في القصة الآتية:

     «أتي عمر رضي الله عنه بتاج كسرى، وسيفه، ومنطقته، وسواريه، فرأى من الدرر والياقوت شيئًا لم ير مثله، فكره أن يمسه بيده؛ فأخذ عودًا، فجعل يقلب ذلك، وينظر إليه، فلما أطال النظر قال:

     إن الذي أدى هذا الأمين!

     فقال له علي: يا أمير المؤمنين، إنك أديت الأمانة إلى الله، فلما أديتها إلى الله أدِّيت لك»(11).

     صدق علي رضي الله عنه إن عمر كان قدوة لقومه، كانوا ينظرون إليه، وهم زملاؤه، وعندهم من الإرادة على مقاومة الإغراء ما عنده، فكان بفعله يشجعهم على الاستمرار على ما أدبوا عليه، وربوا عليه، وما هو مطلوب منهم، ومتطلع إليه فيهم.

 

*  *  *

الهوامش:

(1)          ربيع الأبرار: 1/338، عيون الأخبار: 1/431، سراج الملوك: 419.

(2)          محاضرات الأدباء: 72.

(3)          العقد الفريد: 2/300.

(4)          العقد الفريد: 2/300.

(5)          ربيع الأبرار: 2/789.

(6)          سورة الإسراء، الآية: 12.

(7)          سراج الملوك: 418.

(8)          سراج الملوك: 412.

(9)          سراج الملوك: 419.

(10)      محاضرات الأدباء: 186.

(11)      ربيع الأبرار: 4/343.

*  *  *

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم  ديوبند ، شعبان 1433 هـ = يونيو- يوليو 2012م ، العدد : 8 ، السنة : 36